قبل اثنين وعشرين عاماً، رحل أحد أهم قاماتنا الشعرية العربية، الذي عاش قرناً كاملاً، طولاً بعرض، ذلك هو الشاعر الكبير «محمد مهدي الجواهري» الذي شكَّل ذاكرة بلدٍ بأكمله، فلم يقترن اسم بلدٍ مثلما اقترن العراق بالجواهري، حيث يروي لنا الشاعر «محمد حسين آل ياسين» أنَّه كان صاعداً في قطار متجهٍ نحو ريف المغرب في الجنوب، ويقابله معلمٌ مغربي يسكن ذلك الريف، وحين سمع حديث آل ياسين غريباً بلكنته العراقية، بادره ذلك المعلم وقد عرف أنه عراقي: ولكن هل أنت من بلد الجواهري؟ أي خلودٍ أعظم من هذا، حيث يقترن بلدٌ باسم شاعر، ولا أظن أنَّ شاعراً حصل على هذا المجد العظيم، ما عدا «شكسبير». ولكن الحديث الآن عن «الجواهري» يجب أنْ يتحوَّل من التمجيد الذي كتب كثير منه في حياة الجواهري وبعدها، إلى حديثٍ آخر يتجه نحو الفحص والتحليل.
لم يبق عندي مايبتزه الألمُ
حسبي من الموحشاتِ الهمُّ والهرَمُ
لم يبق عندي كفاءَ الحادثات أسىً
ولا كفاءَ جراحاتٍ تضج دمُ
وحين تطغى على الحرّان جمرتُهُ
فالصمت أفضلُ مايُطوَى عليه فمُ.
خَلعتُ ثوبَ اصطِبارٍ كانَ يَستُرنُي
وبانَ كِذبُ ادِعائي أنَّني جَلِد
بكَيتُ حتَّى بكا من ليسَ يعرِفُني
ونُحتُ حتَّى حكاني طائرٌ غَرِد
حنانيك إن الدهر يطفو ويرسُب
وإلمامة الدنيا تجيء وتذهب
وأن نُثاراتِ الحضاراتِ منبعٌ
يفيض وفي الأرض السبيخةِ ينضب
وفي أمسِ كان الشرق للنور مطلَعاً
فحوَّله عنه إلى الغرب مَغرِب
وها هي نحو الشرق تَلوي رقابَها
شُموسٌ عن الغرب التعيس تَنكَّب
شِسْعٌ لنعلِكَ كلُّ مَوْهِبةٍ
وفداءُ " زندِك " كلُّ موهوبِ
وصدى لُهاثِكَ كلُّ مُبتَكَرٍ
من كلِّ مسموعٍ ومكتوبِ
من كلِّ ما هَجَسَ الغواةُ بهِ
عن فرط تسهيدٍ وتعذيبِ
يا سالبا بِجِماعِ راحتِهِ
أغنى الغنى، وأعزّ مسلوبِ
ما الشعرُ ؟ .. ما الآدابُ ؟..
ما بِدَعٌ للفكر ؟.. ما وَمَضاتُ أُسلوب ؟
شِسْعٌ لنعلِكَ كلُّ قافية
دوَّتْ بتشريق وتغريب
أُعيذُ القوافي زاهياتِ المطالعِ
مزاميرَ عزّافٍ ، أغاريدَ ساجعِ
لطافاً بأفواه الرّواة، نوافذاً
إلى القلب، يجري سحرهُا في المسامع
تكادُ تُحِسّ القلبَ بين سُطورها
وتمسَحُ بالأردانِ مَجرى المدامع
أنا عندي من الأسى جبلُ
يتمشَّى معي وينتقلُ
أنا عندي وإن خبا أملُ
جذوةٌ في الفؤادِ تشتعلُ
ويقول محمد مهدي الجواهري عن العراق:
كأن الربيعَ الطلقَ من هذه الربى
يُجَرّ على الكون الرَحيب ويُسحَب
هُنا انسابت الدنيا وراحت عُصارة
من الفكر في كأس من الضاد تُشرب
وأضفَى على شرقٍ وغربٍ صباغَه
سَنى شَفق في دجلةٍ يتذوَّب
تعليقات
إرسال تعليق